فصل: وقوع التحريف في التوراة وفيتهم على الأنبياء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى **


*1* الفصل السابع‏:‏ الطرق الأربعة الدالة على صحة البشارة به

فهذا في الإخبار بنبوته مما تلقاه المسلمون من أفواه علماء أهل الكتاب، والمؤمنين منهم، والأول فيما نقلوه من كتبهم، وعلمائهم يقرون أنه في كتبهم‏.‏

فالدليل بالوجه الأول يقام عليهم من كتبهم، وبهذا الوجه يقام بشهادة من لا يتهم عليهم، لأنه إما من عظمائهم، وإما ممن رغب عن رياسته، وماله، ووجاهته فيهم، وآثر الإيمان على الكفر، والهدى على الضلال، وهو في هذا مدع أن علماءهم يعرفون ذلك، ويقرون به، ولكن لا يطلعون جهالهم عليه‏.‏

فالأخبار والبشارة بنبوته صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة عرفت من عدة طرق‏:‏

‏(‏أحدها‏)‏‏:‏ ما ذكرناه، وهو قليل من كثير، وغيض من فيض‏.‏ ‏(‏الثاني‏)‏‏:‏ إخباره صلى الله عليه وسلم لهم، أنه مذكور عندهم وأنهم وعدوا به، وأن الأنبياء بشرّت به، واحتجاحه عليهم بذلك، ولو كان هذا الأمر لا وجود له البتة، لكان مغريا لهم بتكذيبه منفراً لاتباعه، محتجاً على دعواه بما يشهد ببطلانها‏.‏

‏(‏الثالث‏)‏‏:‏ أن هاتين الأمتين معترفتين‏:‏ بأن الكتب القديمة بشرّت بنبي عظيم الشأن، يخرج في آخر الزمان، نعته كيت وكيت، وهذا مما اتفق عليه المسلمون، واليهود والنصارى‏.‏

فأما المسلمون‏:‏ فلما جاءهم آمنوا به، وصدقوه، وعرفوا أنه الحق من ربهم‏.‏

وأما اليهود‏:‏ فعلماؤهم عرفوه، وتيقنوا أنه محمد بن عبد الله، فمنهم من آمن به، ومنهم من جحد نبوته، وقالوا لأتباعه‏:‏ إنه لم يخرج بعد‏.‏

وأما النصارى‏:‏ فوضعوا بشارات التوراة والنبوات التي بعدها على المسيح، ولا ريب أن بعضها صريح فيه، وبعضها ممتنع حمله عليه، وبعضها محتمل، وأما بشارات المسيح فحملوها كلها على الحواريين، وإذا جاءهم ما يستحيل انطباقه عليهم حرفوه أو سكتوا عنه، وقالوا‏:‏ لا ندري من المراد به‏.‏

‏(‏الرابع‏)‏‏:‏ اعتراف من أسلم منهم بذلك، وأنه صريح في كتبهم، وعن المسلمين الصادقين منهم تلقى المسلمون هذه البشارات، وتيقنوا صدقها، وصحتها بشهادة المسلمين منهم بها مع تباين إعصارهم، وأمصارهم، وكثرتهم، واتفاقهم على لفظها‏.‏

وهذا يفيد القطع بصحتها ولو لم يقر بها أهل الكتاب، فكيف وهم مقرون بها لا يجحدونها، وإنما يغالطون في تأويلها، والمراد بها‏؟‏ ‏!‏ وكل واحدة من هذه ‏(‏‏(‏الطرق الأربعة‏)‏‏)‏ كاف في العلم بصحة هذه البشارات، وقد قدمنا أن إقدامه صلى الله عليه وسلم ‏(‏ص 106‏)‏ على إخبار أصحابه وأعدائه، بأنه مذكور في كتبهم بنعته وصفته، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وتكراره ذلك عليهم مرة بعد مرة في كل مجمع، وتعريفهم بذلك، وتوبيخهم، والنداء عليهم به، من أقوى الأدلة القطعية على وجوده من وجهين‏:‏

‏(‏‏(‏أحدهما‏)‏‏)‏‏:‏ قيام الدليل القطعي على صدقه‏.‏

‏(‏‏(‏الثاني‏)‏‏)‏‏:‏ دعوته لهم بذلك إلى تصديقه ولو لم يكن له وجود لكان ذلك من أعظم دواعي تكذيبه والتنفير عنه

*2* وقوع التحريف في التوراة وفيتهم على الأنبياء

وهذه الطرق يسلكها من يساعدهم على أنهم لم يحرفوا ألفاظ التوراة والإنجيل، ولم يبدلوا شيئا منها، فيسلكها بعض نظّار المسلمين معهم من غير تعرض إلى التبديل والتحريف‏.‏

وطائفة أخرى تزعم‏:‏ أنهم بدلوا وحرفوا كثيراً من ألفاظ الكتابين، مع أن الغرض الحامل لهم على ذلك دون الغرض الحامل لهم على تبديل البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم بكثير، وإن البشارات لكثرتها لم يمكنهم إخفاؤها كلها، وتبديلها، ففضحهم ما عجزوا عن كتمانه أو تبديله‏.‏

وكيف ينكر من أمة اليهود قتلة الأنبياء الذين رموهم بالعظائم، أن يكتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته، وقد جحدوا نبوة المسيح، ورموه وأمه بالعظائم، ونعته والبشارة به موجود في كتبهم، ومع هذا أطبقوا على جحد نبوته، وإنكار بشارة الأنبياء به، ولم يفعل بهم ما فعله بهم محمد صلى الله عليه وسلم من القتل، والسبي، وغنيمة الأموال، وتخريب الديار وإجلائهم منها، فكيف لا تتواصى هذه الأمة بكتمان نعته وصفته وتبدله من كتبها‏؟‏ ‏!‏ وقد عاب الله سبحانه عليهم ذلك في غير موضع من كتابه، ولعنهم عليه‏.‏

ومن العجب أنهم والنصارى يقرّون أن التوراة كانت طول مملكة نبي إسرائيل عند الكاهن الأكبر الهاروني وحده، واليهود تقرُّ أنّ السبعين كاهناً اجتمعوا على اتفاق من جميعهم على تبديل ثلاثة عشر حرفاً من التوراة، وذلك بعد المسيح في عهد القياصرة، الذين كانوا تحت قهرهم حيث زال الملك عنهم، ولم يبق لهم ملك يخافونه، ويأخذ على أيديهم‏.‏

ومن رضي بتبديل موضع واحد من كتاب الله فلا يؤمن منه تحريف غيره، واليهود تقرّ أيضاً أن السامرة حرّفوا مواضع من التوراة، وبدلوها تبديلاً ظاهراً، وزادوا، ونقصوا، والسامرة تدعي ذلك عليهم‏.‏

وأما ‏(‏‏(‏الإنجيل‏)‏‏)‏ فقد تقدّم أن الذي بأيدي النصارى منه أربع كتب مختلفة من تأليف أربعة رجال‏:‏ يوحنّا، ومتىّ، ومرقس، ولوقا، ‏(‏ص 107‏)‏ فكيف ينكر تطرق التبديل والتحريف إليها؛ وعلى ما فيها من ذلك، فقد صرفهم الله عن تبديل ما ذكرنا من البشارات بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وإزالته، وإن قدروا على كتمانه عن أتباعهم وجهّالهم‏.‏

وفي ‏(‏‏(‏التوراة‏)‏‏)‏ التي بأيديهم من التحريف والتبديل، وما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء ما لا يشك فيه ذو بصيرة، والتوراة التي أنزلها الله على موسى بريئة من ذلك‏.‏

ففيها‏:‏ عن لوط رسول الله أنه خرج من المدينة، وسكن في كهف الجبل، ومعه ابنتاه، فقالت الصغرى للكبرى‏:‏ قد شاخ أبونا فارقدي بنا معه لنأخذ منه نسلاً فرقدت معه الكبرى ثم الصغرى‏.‏

ثم فعلتا ذلك في الليلة الثانية، وحملتا منه بولدين‏:‏ مواب وعمون، فهل يحسن أن يكون نبي رسول كريم على الله يوقعه الله سبحانه في مثل هذه الفاحشة العظيمة في آخر عمره، ثم يذيعها عنه، ويحكيها للأمم‏؟‏ ‏!‏

وفيها‏:‏ ‏(‏‏(‏أن الله تجلى لموسى في طور سيناء، وقال له بعد كلام كثير‏:‏ أدخل يدك في حجرك، وأخرجها مبروصة كالثلج‏)‏‏)‏ وهذا من النمط الأول‏.‏

والله سبحانه لم يتجل لموسى، وإنما أمره أن يدخل يده في جيبه، وأخبره أنها تخرج بيضاء من غير سوء، أي من غير برص‏.‏

وفيها‏:‏ أن هارون هو الذي صاغ لهم العجل، وهذا إن لم يكن من زياداتهم، وافترائهم، فهارون، اسم السامري الذي صاغه ليس هو بهرون أخي موسى‏.‏

وفيها‏:‏ أن الله قال لإبراهيم‏:‏‏(‏‏(‏اذبح ابنك بكرك إسحاق‏)‏‏)‏ وهذا من بهتهم وزيادتهم في كلام الله، فقد جمعوا بين النقيضين؛ فإن بكره‏:‏ هو إسماعيل، فإنه بكر أولاده، وإسحاق إنما بشر به على الكبر بعد قصة الذبح‏.‏

وفيها‏:‏ ‏(‏‏(‏ورأى الله أن قد كثر فساد الآدميين في الأرض، فندم على خلقهم، وقال‏:‏ سأذهب الآدمي الذي خلقت على الأرض، و الخشاش، وطيور السماء، لأني نادم على خلقها جداً‏)‏‏)‏ تعالى الله عن إفك المفترين، وعما يقول الظالمون علواً كبيراً‏.‏

وفيها‏:‏‏(‏‏(‏أن الله سبحانه وتعالى علواً كبيراً تصارع مع يعقوب، فضرب به يعقوب الأرض‏)‏‏)‏‏.‏

وفيها‏:‏ ‏(‏‏(‏أن يهوذا بن يعقوب النبي زوّج ولده الأكبر من امرأة، يقال لها‏:‏ تامار، فكانت يأتيها مستدبراً فغضب الله من فعله، فأماته فزوج يهوذا ولده الآخر بها، فكان إذا دخل بها أمنى على الأرض، علماً بأنه إن أولدها كان أول الأولاد مدعواً باسم أخيه، ومنسوبا إلى أخيه، فكره الله ذلك من فعله، فأماته فأمرها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر ولده شيلا، ويتم عقله‏.‏

ثم ماتت زوجته يهوذا، وذهب إلى منزله ليجز غنمه، فلما أخبرت تامار لبست زي الزواني، وجلست على طريقه، فلما مر بها خالها زانية فراودها فطالبته بالأجرة، فوعدها بجدي، ورمى عندها عصاه وخاتمه، فدخل بها فعلقت منه بولد، ومن هذا الولد كان داود النبي‏)‏‏)‏‏.‏

فقد جعلوه ولد زنا كما جعلوا المسيح ولد زنا، ‏(‏ص 108‏)‏ ولم يكفهم ذلك حتى نسبوا ذلك إلى التوراة، وكما جعلوا ولدي لوط ولدي زنا، ثم نسبوا داود وغيره من أنبيائهم إلى ذينك الولدين‏.‏

وأما فريتهم على الله ورسله وأنبيائه، ورميهم لرب العالمين ورسله بالعظائم، فكثير جداً، كقولهم‏:‏ إن الله استراح في اليوم السابع من خلق السموات والأرض، فأنزل الله عز وجل على رسوله تكذيبهم، بقوله‏:‏‏(‏ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وما مسنا من لغوب‏)‏‏.‏

وقولهم‏:‏‏(‏إن الله فقير ونحن أغنياء‏)‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏(‏يد الله مغلولة غلت أيديهم، ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان‏)‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏(‏إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار‏)‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏(‏لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة‏)‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله تعالى بكي على الطوفان حتى رمدت عيناه، وعادته الملائكة‏)‏‏)‏‏.‏

وقولهم الذي حكيناه آنفا‏:‏ ‏(‏‏(‏أن الله ندم على خلق بني آدم‏)‏‏)‏ وأدخلوا هذه الفرية في التوراة‏.‏

وقولهم‏:‏ عن لوط أنه وطئ ابنتيه، وأولدهما ولدين نسبوا إليهما جماعة من الأنبياء‏.‏

وقولهم في بعض دعاء صلواتهم‏:‏ انتبه كم تنام يا رب استيقظ من رقدتك‏.‏

فتجرؤا على رب العالمين بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم ينخونه بذلك لينتخي لهم ويحتمي، كأنهم يخبرونه أنه قد اختار الخمول لنفسه وأحبابه، فيهزونه بهذا الخطاب للنباهة واشتهار الصيت، قال بعض أكابرهم بعد إسلامه‏:‏ فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات في الصلاة يقشعر جلده، ولا يشك أن كلامه يقع عند الله بموقع عظيم، وأنه يؤثر في ربه، ويحركه، ويهزه، وينخيه‏.‏

وعندهم في توراتهم‏:‏ ‏(‏‏(‏أن موسى صعد الجبل مع مشايخ أمته، فأبصروا الله جهرة، وتحت رجليه كرسي منظره كمنظر البلور‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا من كذبهم وافترائهم على الله، وعلى التوراة، وعندهم في توراتهم‏:‏‏(‏‏(‏أن الله سبحانه لما رأى فساد قوم نوح، وأن شرهم قد عظم، ندم على خلق البشر في الأرض وشق عليه‏)‏‏)‏‏.‏

وعندهم في توراتهم أيضاً‏:‏‏(‏‏(‏أن الله ندم على تمليكه شاؤل على إسرائيل‏)‏‏)‏‏.‏

وعندهم فيها‏:‏‏(‏‏(‏أن نوحاً لما خرج من السفينة بنى بيتاً مذبحاً، وقرب عليه قرابين، واستنشق الله رائحة القتار، فقال في ذاته‏:‏ لن أعاود لعنة الأرض بسبب الناس، لأن خاطر البشر مطبوع على الرداءة، ولن أهلك جميع الحيوان كما صنعت‏)‏‏)‏‏.‏

*2* سبب تبديل التوراة

قال بعض علمائهم الراسخين في العلم ممن هداه الله إلى الإسلام‏:‏ لسنا نرى إن هذه الكفريات كانت في التوراة المنزلة على موسى، ولا نقول أيضا أن اليهود قصدوا تغييرها وإفسادها؛ بل الحق أولى ما اتبع، قال‏:‏ ونحن نذكر حقيقة سبب تبديل التوراة‏.‏

فإن علماء القوم وأحبارهم يعلمون أن هذه التوراة التي بأيديهم لا يعتقد أحد من علمائهم وأحبارهم أنها عين التوراة المنزلة على موسى بن عمران البتة، لأن موسى ‏(‏ص 109‏)‏ صان التوراة عن بني إسرائيل، ولم يبثها فيهم خوفا من اختلافهم من بعده في تأويل التوراة المؤدي إلى انقسامهم أحزابا، وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد لاوي، قال‏:‏ ودليل ذلك قول التوراة ما هذه ترجمته‏:‏

‏(‏‏(‏وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى أئمة بني لاوي، وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم، لأن الإمامة وخدمة القرابين والبيت المقدس كانت فيهم، ولم يبد موسى لبني إسرائيل من التوراة إلا نصف سورة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الله لموسى عن هذه السورة‏:‏‏(‏‏(‏وتكون لي هذه السورة شاهدة على بني إسرائيل ولا تنسى هذه السورة من أفواه أولادهم‏)‏‏)‏‏.‏

وأما بقية التوراة فدفعها إلى أولاد هارون وجعلها فيهم وصانها عمن سواهم، فالأئمة الهارونيون هم الذين كانوا يعرفون التوراة ويحفظون أكثرها فقتلهم بختنصر على دم واحد، وأحرق هيكلهم يوم استولى على بيت المقدس‏.‏

ولم تكن التوراة محفوظة على ألسنتهم، بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلا من التوراة فلما رأى عزير أن القوم قد أحرق هيكلهم، وزالت دولتهم، وتفرق جمعهم، ورفع كتابهم، جمع من محفوظاته‏.‏

ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما لفق منه هذه التوراة التي بأيديهم، ولذلك بالغوا في تعظيم عزير غاية المبالغة، وقالوا فيه ما حكاه الله عنهم في كتابه، وزعموا أن النور على الأرض إلى الآن يظهر على قبره عند بطائح العراق، لأنه عمل لهم كتابا يحفظ دينهم‏.‏

فهذه التوراة التي بأيديهم على الحقيقة كتاب عزير وإن كان فيها أو أكثرها من التوراة التي أنزلها الله على موسى‏.‏

قال‏:‏ وهذا يدل على أن الذي جمع هذه الفصول التي بأيديهم رجل جاهل بصفات الرب تعالى، وما ينبغي له وما لا يجوز عليه، فلذلك نسب إلى الرب تعالى ما يتقدس ويتنزه عنه، وهذا الرجل يعرف عند اليهود والنصارى‏:‏ بعازر الوراق، ويظن بعض الناس أنه ‏(‏الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال‏:‏ أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه‏)‏ ويقول‏:‏

أنه نبي ولا دليل على هاتين المقدمتين، ويجب التثبت في ذلك نفيا وإثباتا، فإن كان هذا نبيا، واسمه عزير فقد وافق صاحب التوراة في الاسم‏.‏

‏(‏‏(‏وبالجملة‏)‏‏)‏ فنحن وكل عاقل نقطع ببراءة التوراة التي أنزلها الله على كليمه موسى من هذه الأكاذيب، والمستحيلات، والترهات، كما نقطع ببراءة صلاة موسى، وبني إسرائيل معه من هذا الذي يقولونه في صلاتهم اليوم، فإنهم في العشر الأول من المحرم في كل سنة يقولون في صلاتهم ما ترجمته‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبانا، املك على جميع أهل الأرض، ليقول كل ذي نسمة الله إله إسرائيل قد ملك ومملكته في الكل متسلطة‏)‏‏)‏‏.‏

ويقولون فيها أيضا‏:‏‏(‏‏(‏وسيكون لله الملك، وفي ذلك اليوم يكون الله واحدا واسمه واحد‏)‏‏)‏ ويعنون بذلك‏:‏ أنه لا يظهر كون الملك له، وكونه واحدا إلا إذا صارت الدولة لهم، فأما ما دامت الدولة ‏(‏ص 110‏)‏ لغيرهم فإنه تعالى خامل الذكر عند الأمم مشكوك في وحدانيته، مطعون في ملكه، ومعلوم قطعا أن موسى ورب موسى بريء من هذه الصلاة براءته من تلك الترهات‏.‏

*2* اليهود كذبوا مسيح الهدى وينتظرون مسيح الضلال

*3*‏(‏فصل‏)‏ جحدهم بنبوة محمد نظير جحدهم نبوة المسيح

وجحدهم نبوة محمد من الكتب التي بأيديهم نظير ‏(‏‏(‏جحدهم نبوة المسيح‏)‏‏)‏ وقد صرحت باسمه، ففي نص التوراة‏:‏‏(‏‏(‏لا يزول الملك من آل يهوذا، والراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح‏)‏‏)‏ وكانوا أصحاب دولة حتى ظهر المسيح فكذبوه، ورموه بالعظائم، وبهتوه وبهتوا أمه، فدمر الله عليهم وأزال ملكهم، وكذلك قوله

‏:‏‏(‏‏(‏جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران‏)‏‏)‏ فأي نبوة أشرقت من ساعير غير نبوة المسيح، وهم لا ينكرون ذلك، ويزعمون أن قائما يقوم فيهم من ولد داود النبي إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم ولا يبقى إلا اليهود‏.‏

وهذا ‏(‏‏(‏المنتظر‏)‏‏)‏ بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به، قالوا‏:‏ ومن علامة مجيئه أن الذئب والتيس يربضان معا، وأن البقرة والذئب يرعيان معا، وأن الأسد يأكل التبن كالبقر، فلما بعث الله المسيح كفروا به عند مبعثه، وأقاموا ينتظرون متى يأكل الأسد التبن حتى تصح لهم علامة مبعث المسيح، ويعتقدون أن هذا المنتظر متى جاءهم يجمعهم بأسرهم إلى القدس، وتصير لهم الدولة، ويخلو العالم من غيرهم، ويحجم الموت عن جنابهم المنيع مدة طويلة‏.‏

وقد عوضوا من الإيمان بالمسيح ابن مريم بانتظار مسيح الضلالة الدجال، فإنه هو الذي ينتظرونه حقا، وهم عسكره وأتبع الناس له، ويكون لهم في زمانه شوكة ودولة، إلى أن ينزل مسيح الهدى ابن مريم، فيقتل منتظرهم، ويضع هو أصحابه فيهم السيوف حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقولان‏:‏

يا مسلم هذا يهودي ورائي، تعال فاقتله، فإذا نظف الأرض منهم، ومن عباد الصليب، فحينئذ يرعى الذئب والكبش معا، ويربضان معا، وترعى البقرة والذئب معا، ويأكل الأسد التبن، ويلقي الأمن في الأرض‏.‏

هكذا أخبر به شعيا في نبوته، وطابق خبره ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ في خروج الدجال، وقتل المسيح ابن مريم له، وخروج يأجوج ومأجوج في أثره، ومحقهم من الأرض، وإرسال البركة والأمن في الأرض حتى ترعى الشاة والذئب، وحتى أن الحيات والسباع لا تضر الناس‏.‏

فصلوات الله وسلامه على من جاء بالهدى والنور، وتفصيل كل شيء وبيانه، فأهل الكتاب عندهم عن أنبيائهم حق كثير لا يعرفونه ولا يحسنون أن يضعوه مواضعه، ولقد أكمل ‏(‏ص 111‏)‏ الله سبحانه بمحمد صلوات الله وسلامه عليه ما أنزله على الأنبياء عليهم السلام من الحق وبينه وأظهره لأمته، وفصل على لسانه ما أجمله لهم وشرح ما رمزوا إليه، فجاء بالحق، وصدق المرسلين، وتمت نعمة الله على عباده المؤمنين‏.‏

فالمسلمون واليهود والنصارى تنتظر مسيحا يجيء في آخر الزمان، فمسيح اليهود هو الدجال، ومسيح النصارى لا حقيقة له، فإنه عندهم إله وابن إله وخالق ومميت ومحي‏.‏

فمسيحهم الذي ينتظرونه هو المصلوب المسمر المكلل بالشوك بين اللصوص، والمصفوع الذي هو مصفعة اليهود، وهو عندهم رب العالمين وخالق السموات والأرضين‏.‏

ومسيح المسلمين الذي ينتظرونه هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول عيسى ابن مريم، أخو عبد الله ورسوله محمد بن عبد الله، فيظهر دين الله وتوحيده، ويقتل أعداءه عباد الصليب الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وأعداءه اليهود الذين رموه وأمه بالعظائم فهذا هو الذي ينتظره المسلمون، وهو نازل على المنارة الشرقية بدمشق، واضعا يديه لى منكبي ملكين، يراه الناس عيانا بأبصارهم نازلا من السماء‏.‏

فيحكم بكتب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينفذ ما أضاعه الظلمة والفجرة والخونة من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحي ما أماتوه، وتعود الملل كلها في زمانه ملة واحدة وهي ملته وملة أخيه محمد وملة أبيهما إبراهيم وملة سائر الأنبياء، وهي الإسلام الذي من يبتغي غيره دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين‏.‏

وقد حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدركه من أمته السلام، وأمره أن يقرئه إياه منه، فأخبر عن موضع نزوله بأي بلد وبأي مكان منه، وبحاله وقت نزوله، وملبسه الذي كان عليه‏.‏

وأنه ‏(‏‏(‏ممصرتان‏)‏‏)‏ أي‏:‏ ثوبان وأخبر بما يفعل عند نزوله مفصلا حتى كأن المسلمين يشاهدونه عياناً قبل أن يروه، وهذا من جملة الغيوب التي أخبر بها فوقعت مطابقة لخبره حذو القذة بالقذة، فهذا منتظر المسلمين لا منتظر المغضوب عليهم والضالين، ولا منتظر إخوانهم من الروافض المارقين‏.‏

وسوف يعلم المغضوب عليهم إذا جاء منتظر المسلمين أنه ليس بابن يوسف النجار، ولا هو ولد زنية، ولا كان طبيبا حاذقا ماهرا في صناعته استولى على العقول بصناعته، ولا كان ساحرا ممخرقا، ولا مكنوا من صلبه وتسميره وصفعه وقتله؛ بل كانوا أهون على الله من ذلك‏.‏

ويعلم الضالون أنه ابن البشر، وأنه عبد الله ورسوله ليس بإله ولا ابن إله، وأنه بشر بنبوة محمد أخيه أولا، وحكم بشريعته ودينه آخرا، وأنه عدو المغضوب عليهم والضالين‏.‏

وولي رسول الله وأتباعه المؤمنين، وما كان أولياؤه الأرجاس الأنجاس عبدة الصلبان، والصور المدهونه في الحيطان، إن أولياءه ‏(‏ص 112‏)‏ إلا الموحدون عباد الرحمن أهل الإسلام والإيمان، الذين نزهوه وأمه عما رماهما به أعداؤهما اليهود، ونزهوا ربه، وخالقه، ومالكه، وسيده، عما رماه به أهل الشرك، والسب للواحد المعبود‏.‏